"صدام الحضارات"- قراءة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي

ينطلق صموئيل هنتنغتون في رحلة عبر غياهب التاريخ، متتبعًا مسارات الأمم والحضارات والإمبراطوريات في صعودها وهبوطها. ثم يعود كارتداد الموج في بحر مضطرب إلى العصر الحديث، المثقل بالنزاعات والمتخم بالتناقضات المستعصية.
وخلال هذه الرحلة المضنية، يسعى جاهدًا لاكتشاف القوانين التي تحكم صراع الحضارات. وعندما يحلّ تحليله على شواطئ التباينات الثقافية، يضع أسسًا راسخة لحالة الصدام الدائم، لا سيما في المناطق المتصدعة التي تنذر بأسباب الحروب والتوترات الحادة والعلاقات الشائكة.
واليوم، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على ظهور الكتاب لأول مرة (عام 1993)، يستعيد "صدام الحضارات" أهميته المعاصرة من خلال إطلاق المقاومة الفلسطينية جولة جديدة من الصراع أطلقت عليها اسم "طوفان الأقصى". هذه التطورات تثير تساؤلات حول قدرة هذه النظرية على تفسير مجريات الصراع الدولي، انطلاقًا من مفاهيمها الأساسية حول الصدام الحضاري.
والواقع أننا لا نرغب في الخوض في تفاصيل الصورة الشاملة للصدام كما وردت في الكتاب، نظرًا لضيق المساحة المتاحة. لذا، نفضل التركيز على الصراع في فلسطين باعتبارها نموذجًا لهذا الصدام.
تحولات الصراع الدولي
شكّل مؤتمر مالطا عام 1989 إعلانًا بنهاية الحرب الباردة، وولادة نظام عالمي جديد يتميز بانتصار الليبرالية على الاقتصاد الموجه، والديمقراطية على الشمولية. وكأن الرهان الهيغلي قد انتصر على وعود الماركسية، وهو ما دفع فوكوياما في عام 1992 إلى التبشير بـ "نهاية التاريخ".
ولم يحد هنتنغتون عن هذا المسار في تتبع أحداث الصراع الدولي، حيث رأى أن العالم قد تحول للمرة الأولى من "صراع أيديولوجي" بين معسكرين، إلى صراع حضاري "بين مجموعات من حضارات مختلفة".
وبالتالي، أصبحت الحضارة هي المحور الجديد للسياسة الدولية. فخلف النزاعات والمواجهات وكل أشكال التباين الحاد بين القوى، تكمن قوة خفية: وهي الهوية الثقافية للشعوب. لم يعد الاقتصاد هو المحرك الأساسي للعلاقات الدولية كما زعمت الماركسية، ولا الأيديولوجيات كما تجسدت في الحرب الباردة، بل الحضارة التي تسلط أضواءها الكاشفة على التناقضات العميقة بين الأنظمة. وقد تجسدت هذه القاعدة في التوازنات الدولية الناشئة.
إن إعادة ترتيب النظام العالمي على أسس حضارية يعني تحولًا جذريًا في التسلسل الهرمي الدولي. فتصبح دول المركز في الحضارات هي المرجعية لهذا النظام من خلال الثقافة التي تشاركها مع الدول الأعضاء في نفس الحضارة. فـ "العوامل الثقافية المشتركة تضفي شرعية على القيادة ودور دولة المركز في فرض النظام، بالنسبة لكل من الدول الأعضاء والقوى والمؤسسات الخارجية".
وبناءً على ذلك، فإن المقومات الأساسية للنظام العالمي الجديد القائم على الحضارات تتبلور في تصورات دولة المركز وعمقها الثقافي. وعلى أساس هذا العامل الثقافي، يتم بناء التسلسل الهرمي الجديد في العلاقات الدولية. فننتقل من توازنات الحرب الباردة التي قامت على وجود قوتين عظميين بالإضافة إلى كتلهما الدولية ومناطق نفوذهما في العالم الثالث، إلى توازنات جديدة ترتكز على الدولة المركز في القطب الحضاري، بالإضافة إلى الدولة الإقليمية التي تشترك معها في الأساس الثقافي، ومنطقة النفوذ.
وهذا يعكس أهمية دولة المركز في الفرز الاستراتيجي الجديد الذي أدى إلى ظهور مجموعة من الكتل الحضارية، تتزعم كل كتلة فيها دولة مركز.
فالولايات المتحدة هي دولة مركز في الغرب الحضاري، وروسيا دولة مركز في الكتلة الأرثوذكسية، والصين دولة مركز في القطب الكونفوشيوسي. في حين أن "حضارات الإسلام وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، ليس لها دول مركز". ويعود هذا الغياب بشكل أساسي إلى تأثيرات الاستعمار الغربي في تفتيت هذه الكيانات الحضارية، وهو التفتيت الذي يحمل الكثير من إشارات الصدام.
صدام الحضارات
يبدو الكتاب وكأنه نبوءة استشرف من خلالها هنتنغتون محركات الصراع في الأزمنة القادمة. لم يكن الصراع المقصود "الآن وهنا"، ولكنه كان قراءة في "كف" المستقبل، ينظر إليه بعين "الحتمية التاريخية". فيكون "صدام الحضارات" بمثابة "المرحلة الأخيرة في عملية تطور النزاعات في العالم الحديث"، على حد تعبيره.
فالحضارة في تعريف هنتنغتون هي "مزيج معقد من الأخلاق والدين والتعليم والفن والفلسفة والتكنولوجيا والرخاء المادي". وعندما ربطها بالصدام، تحولت إلى "نموذج" يُسترشد به في تفسير التناقضات بين الشعوب التي تعرف نفسها دائمًا انطلاقًا من هويتها الحضارية ومخزونها الثقافي. فـ "نحن الحضارية، وهم الذين خارج تلك الحضارية، من الثوابت في التاريخ الإنساني". فالحروب بين دول من حضارات مختلفة تكون أكثر شراسة ودموية عند استشعار تهديد الهوية.
وفي هذا السياق، يؤكد هنتنغتون أن العلاقات بين الحضارات ستكون أكثر عدوانية، خاصة بين الإسلام وجيرانه. وأن أخطر الصراعات في المستقبل ستكون "نتيجة تفاعل الغطرسة الغربية والتعصب الإسلامي والتوكيد الصيني". ويتوقف كثيرًا عند تفاصيل الغطرسة الغربية، متتبعًا تفاصيل تشكلها بين الخط التاريخي والخط الثقافي.
خط تاريخي يفصل بين الشعوب الغربية المسيحية والشعوب الإسلامية والأرثوذكسية، ويرتبط تاريخيًا بالإمبراطورية الرومانية في القرن العاشر.
وخط ثقافي يرتبط بالتقسيم التاريخي بين الإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية العثمانية، فهو الحد الثقافي لأوروبا، بمعنى أن "أوروبا تنتهي حيث تنتهي المسيحية الغربية ويبدأ الإسلام والأرثوذكسية".
وبعد زوال "الخطر الأحمر"، أصبح هذا الخط الفاصل هو الحد السياسي والاقتصادي لأوروبا والغرب. وقد أثر سقوط الشيوعية على نظرة الغرب إلى نفسه وإلى العالم، فرأى أن أيديولوجيته الليبرالية يمكن أن تحكم العالم. فكانت العولمة صدى لهذه الأطروحة المنتصرة، مما زاد من احتمالات الصدام. فما يراه الغرب قيمًا نبيلة، يراه الآخرون مجرد استعمار.
خطوط الصدع
يجري الصدام حسب هنتنغتون عند خطوط التقسيم الحضاري، خطوط الصدع أو دول الصدع، وهي الدول التي "تقع على الحدود بين مناطق التماس بين الحضارات". فتندلع صراعات لا نهاية لها عند خطوط التقسيم بين الدول أو الجماعات المنتمية إلى حضارات مختلفة.
وقد يجري الصراع داخل الدولة نفسها. ويرى أن المعنيين أكثر بصراعات خطوط التقسيم هم أساسًا المسلمون. وأحيانًا أخرى "تكون القضية قضية صراع للسيطرة على أراضٍ. وقد يكون هدف أحد المشاركين فيها على الأقل هو انتزاع أرض وتحريرها من آخرين بطردهم أو قتلهم أو القيام بالعملين معًا، وغالبًا ما تكون الأرض المتنازع عليها رمزًا لهوية وتاريخ طرف من طرفي الصراع أو لهما معًا، وقد تكون أرضًا مقدسة لهما فيها حق لا يجوز المساس به".
وهذا الكلام يحمل شيئًا من الصواب. فقد كان المسلمون غالبًا موضوعًا للإخضاع والاحتلال عند خطوط التماس، أو في عمق الدول التي لا تدين بالإسلام مثل الصين، أو الهند، أو ميانمار. ولعل فلسطين هي خلاصة هذا الصراع.
الصراع الحضاري في فلسطين
مع نهاية الدولة العثمانية، أصبح الإسلام – على عكس الحضارات الغربية والأرثوذكسية والصينية- "يفتقر إلى دولة مركز". وقد أدى هذا الفراغ إلى إثارة مطامع الاستعمار والصهيونية. ولكن ما لم يدركه هنتنغتون هو أن الفراغ السياسي الناتج عن غياب دولة الأمة، قد ملأه العمق الحضاري الذي تتميز به القضية الفلسطينية.
لذلك، ليس من المستغرب أن تتبوأ القضية الفلسطينية منذ منتصف القرن العشرين مكانة القضية المركزية للأمة. والمشكلة الأساسية في أطروحة هنتنغتون هي أنه لم ينظر إلى الصراع في فلسطين على أنه صراع مركزي ذو طبيعة استثنائية، بل تعامل معه بوصفه أحد الصراعات الإثنية أو العرقية التي تشق العالم المعاصر. فهو ينتمي إلى حروب خطوط الصدع، مثله مثل الحرب بين الهند وباكستان أو بين المسلمين والمسيحيين في السودان وغيرها، لذلك فقد حضر في كتابه كمثال للاستدلال به كلما اقتضت حاجته النظرية.
يرى هنتنغتون أن "رعاية الغرب في قمة قوته في مواجهة الإسلام، لوطن يهودي في الشرق الأوسط، وضعت الأساس لعداء عربي إسرائيلي مستمر".
وفي الخلفية الحضارية للصراع، ينظر هنتنغتون إلى فلسطين من خلال انتمائها للإسلام، في حين يضع إسرائيل ضمن الدائرة المسيحية اليهودية، ملاحظًا أن الغرب قد أضفى على هذا المشروع طابعًا دينيًا، وجعله "ضمن مكونات البُعد الديني في الحضارة الغربية".
وقد دلت صفحات التاريخ على صراع عميق ومستمر بين الإسلام والمسيحية. فـ "كلاهما كان الآخر بالنسبة للآخر". والاحتكاك بين الجانبين كان يثير دائمًا قضايا الهوية والانتماء.
وخلال معظم جولات الصراع، كان "الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك". وعلى الرغم من محاولة هنتنغتون البحث في حقيقة الإسلام، فإن تصوره لم يستطع النفاذ إلى العمق الفلسفي والوجودي لهذا الدين، فتردت قراءته في مفاهيم مختزلة عن العنف والدم ونبذ الآخر، فسار على تخوم "العمق الحضاري" للصراع دون أن يلجه، فجاءت صورته باهتة، بالكاد تنطق بأحكام الجغرافيا الخرائطية منزوعة السلاح الحضاري. ليصبح الصراع في فلسطين صراعًا محكومًا بنظرية "خطوط الصدع"، أو خطوط "التقسيم الحضاري".
وهي مقاربة متهافتة إذا نظرنا إليها من زاوية الجغرافيا الفلسطينية بحد ذاتها. ففلسطين لا تقع ضمن خطوط الصدع مثلما يسميها هنتنغتون، أي الدول الواقعة على التماس بين حضارتين، بل إنها – بمنطق التاريخ والجغرافيا- جزء من أرض الشام، وتقع في عمق الخريطة العربية، فهي الخط الفاصل بين الجناح الشرقي والجناح الغربي للأمة.
ولم يكن استقدام يهود الشتات من أصقاع الأرض إلا لضرورة السيطرة على "سُرّة" العالم، ومن ثم تأبيد واقع التجزئة والتخلف والإلحاق الحضاري. فتقاطع الاستعمار مع الصهيونية لإنتاج هذه الحالة الطارئة.
لقد رأى هنتنغتون وهو يبحث عن منطقة التناقض بين الإسلام والغرب أن الصراع في عمقه هو صراع بين القيم الدينية والقيم العلمانية. وهو الاستنتاج الذي حرم الرجل من النفاذ إلى عمق الصراع فظل معلقًا في سطحه.
فهذه المعايير النسبية لا تصلح لأن تكون حاملًا موضوعيًا لصراع من أعقد الصراعات في التاريخ، إضافة إلى ما يكتنفها من صعوبة حين الفرز بين القوى.
ففي سنة 1968 مثلًا، أعلنت حركة فتح، وهي التي قادت النضال الفلسطيني في ستينيات القرن الماضي، أن مشروعها السياسي يهدف إلى بناء "الدولة الفلسطينية العلمانية الديمقراطية". فأين تتمايز القوى المتقابلة؟ إضافة إلى أنه قد جرى مع دولة الاستقلال التبني الواسع للأنموذج الغربي في السياسة في العالم العربي والعالم الثالث.
لذلك ينتقل هنتنغتون إلى التركيز على أهمية الأرض والمقدسات وقيمة القدس في المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية، فيقر بأنّ "المكان له مغزى تاريخي وثقافي وعاطفي عميق لدى كل طرف"، ولكنه يعجز عن استنطاق النصوص المؤسسة لعظمة المكان كي ينفذ إلى عمق الصراع.
صحيح أنه أدرك أن الصراع صراع جذري لا يقبل الحلول الوسطى، ولكنه لم يدرك أنه صراع بين وجهتي نظر تجاه الكون والحياة والإنسان، تصدران عن قاعدتين فلسفيتين متباينتين. وحين يهرب من كل ذلك إلى تحديد طبيعة العدو، فإنه يرى في مفرد الصهيونية جمْع الغرب الحضاري.
يرى هنتنغتون أن الكيان المحتل ليس إلا جزءًا من الغرب الحضاري. فإسرائيل ليست قوة قائمة بذاتها بل هي قوة قائمة بغيرها، زرعها الغرب في قلب الأمة لأسباب حضارية وإستراتيجية. وقد ارتبطت بذلك الغرب برابط "القربى الثقافية"، وهي الصلة التي تجعل من الدول الأعضاء في الحضارة الواحدة أسرة واحدة.
وتأخذ الدولة المركز دائمًا على عاتقها "توفير الدعم والنظام للأقارب"، فهي علاقة تبادلية. إذ كثيرًا ما قدم الإسرائيليون أنفسهم على أنهم خط الدفاع الأساسي عن الغرب، بالأمس ضد خطر الشيوعية والاتحاد السوفياتي، واليوم ضد "خطر الأصولية الإسلامية على نطاق منطقة الشرق الأوسط كلها".
ومن ثم يمكن أن نفهم كيف تداعت الدول الغربية إلى إسناد دولة الاحتلال بعد إطلاق عملية طوفان الأقصى. وكيف فتحت خطوط الإمداد لتوفير احتياجاتها من العتاد والسلاح بل والمشاركة الميدانية في العدوان على غزة. وهي صلة القربى التي بررت لألمانيا المتورطة في "المحرقة النازية"، أن تتورط في محرقة غزة؛ فتصرّح وزيرة خارجيتها أنالينا بيربوك "كلنا صهاينة على نحو ما".
لقد دافع هنتنغتون عن فكرة "صدام الحضارات". ورغم فقدان النظرية للاتساق العلمي، فإنها تمثل إسهامًا في فهم الصراع الحضاري في فلسطين. فهذه المواجهة التاريخية في غزة تعكس تصادمًا بين مشروعين حضاريين: واحد قام على مركزية الله في الوجود، وآخر نهض على مركزية الإنسان في الوجود. فخلف الرؤية الحضارية يكمن جوهر الصراع.
ومما لا ريب فيه أن الصراع مع الصهيونية هو امتداد للصراع مع الغرب نفسه، فقد ورثت الحركة الصهيونية عن الغرب إمبرياليته وقاعدته الفلسفية التي كان يجري في ضوئها التمييز الصارم بين عالم المتمدينين وعالم الهمج، وتبرير سلوك العنف والقسوة انطلاقًا من فكرة تحضير وتمدين أولئك الذين يفتقرون إلى الحضارة. الاسطوانة المشروخة نفسها يرددها نتنياهو بوقاحة لتبرير حرب التطهير العرقي على غزة.